التعليم والمجتمع

العقل والمعرفة .. بوصفهما حياةً وهويّة وسلوكــاً

د. حيدر حب الله
ثمّة وجهة نظر قديمة جديدة تبدو لي تستحقّ التفكير، وهي تنتصر لفكرة أنّ العقل في أدبيّات القرآن والسنّة وموروث الصدر الأوّل عند المسلمين، لا علاقة له بالعقل النظري ولا بالمعرفة بالمعنى الذي نتداوله اليوم، إلا بالتّبع وثانياً وبالعَرَض، بل له صلة – أولاً وبالذات- بالعقل العملي وبمفهوم الوعي والبصيرة المنعكسة في هويّة الإنسان وسلوكه المادّي والمعنوي، فكلمة «العقل» في جذرها اللغوي ترجع لنوع من المنع، ولهذا لما جاء تعبير «اعقلها وتوكّل»، عنى ذلك ربطها بحيث تمتنع عن الحركة المضرّة بالآخرين، ومنهم صاحبها، فيما العقل بمفهومه الذي عرفناه لاحقاً ينتمي أكثر إلى الإرث اليوناني الوافد.
وإذا رصدنا التعبير القرآني المتكرّر النافي للعقل عن الكافرين، فمن الواضح هنا أنّ نفي العقل لا يعني أنّ الكافرين مجانين، بل هم عاقلون تماماً، لكنّ السلوك الذي يسلكونه هو سلوك من لا يملك عقلاً، بمعنى أنّ حركتهم في التعامل مع الأمور النظرية والعمليّة هي حركة الفاقد للعقل الذي يضبط الأمور، قال تعالى: ﴿وَإِذَا نَادَيتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قوْمٌ لَا يعْقِلُونَ﴾، فهؤلاء لفقدانهم التوازن في الوعي يتصرّفون مع الصلاة والعبوديّة لله بمثل هذا النوع من التصرّف، ولو أنّهم عادوا إلى استقامة العقل وأرجعوا لأنفسهم البصيرة والوعي لما صحّ منهم ذلك ولما صدر.
ولعلّ قوله تعالى: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي ينْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فهُمْ لَا يعْقِلُونَ﴾، وكذا قوله سبحانه: ﴿يَا أَيهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا توَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يعْقِلُونَ﴾، يقدّم لنا نوعاً من التفسير لمفهوم العقل في التداول القرآني، فهؤلاء نتج عن فقدانهم البصر والسمع والنطق أنّهم لا يعقلون، أو نتج عن فقدانهم العقل أنّهم لا يسمعون ولا يبصرون، وهذه الآية تفتح على احتماليّات متعدّدة في التفسير، من بينها أنّ العقل ليس سوى فتح الإنسان لاُذنيه وسمعه، إنّه ليس طاقة ذهنيّة، بل هو شكل تواصلي مع العالم الخارجي ومع الأفكار والأشخاص والتيارات والناس، فالمنغلق على نفسه لا ينال من الأمور إلا ظواهرها، هو كالحيوان غير العاقل الذي يرى الأشياء لكنّه لا يفقهها، بل يجمد عند أشكالها الظاهريّة، والعقل هو نوع من الوعي بالجانب الآخر للأشياء، وعياً يفضي إلى صلاح، ولهذا قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَتوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفلَمْ يَكُونُوا يرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يرْجُونَ نُشُورًا وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بعَثَ اللَّهُ رَسُولًا إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آَلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيهَا وَسَوْفَ يعْلَمُونَ حِينَ يرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾.

لقراءة المزيد اضغط هنا

وسوم
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق